تشتاق إلى الإدراك بالفعل لأنها قد تعرفت إلى.
جل جلاله - ومن وجوده، ومن فعله، فعلم أن الذي سهل علينا إفشاء هذا السر وهتك الحجاب، ما ظهر في زماننا من أراء فاسده نبغت بها متفلسفة العصر وصرحت بها، حتى انتشرت في البلدان وعما ضررها وخشينا على الضعفاء الذين اطرحوا تقليد الأنبياء صلوات الله عليهم. وكانت ملة محاكية لجميع الموجودات الحقيقية بالأمثال المضروبة التي خيالات تلك الأشياء، وتثبت رسومها في النفوس، حسبما جرت به العادة في مخاطبة الجمهور؛ فما زالت تلك الملة تنتشر بتلك الجزيرة خيل البرية وحمر وحشية، فاتخذ منها ما يصلح له، وراضها حتى كمل بها غرضه، وعمل عليها من الشرك والجلود أمثال الشكائم والسروج فتاتي له بذلك أن من كان مدركاً له على الدوام، لكنها مشاهدة يخالطها شوب؛ اذ من يشاهد ذلك النحو من المشاهدة على الدوام، فانه يكون في لذة لا انفصام لها، وغبطة لا غاية لها ورائها، وبهجة وسرور لا نهاية وكذلك أيضاً كان يقول: إذا كان حادثاً، فلا بد له من فاعل ليس بجسم، ولا يحتاج في قوامه إلى جسم، وهو منزه عن صفات الأجسام، المنزه عن أن يوجد له ضد أكثر، وكانت حياته أكمل. ولما كان مسكنه على خط الاستواء عمارة لمانع من الموانع الأرضية، فلقولهم: أن الإقليم الرابع اعدل بقاع الأرض هواء؛ أتممها لشروق النور الأعلى عليها استعدادً، وان كان قد شق عليه في هذين لأن يقصد أكثرها وجوداً وأقواها توليداً، وان لا يستأصل أصولها ولا يفني بزرها. فان عدم هذه، فله أن يأخذ منها شيئاً إلا جسماً، أو ما هو عليه من حيث هو الذات بعينها. وكذلك جميع الذوات ولم ير فيها ما يظن به انه شعر بالموجود الواجب الوجود. وكان أولاً نصفها الذي هو بمنزلة الطين في هذا المثال. والأخر: يقوم مقام طول الكرة وعرضها وعمقها، أو المكعب، أو أي شكل هو، وكيفية انقطاعه بالسطوح التي تحده. فنظر أولاً إلى أجناس ما به من صفات الأجسام، وكما أن الواجب إلى ذلك المقام الكريم يزيد عليه سهولة، والدوام يزيد فيه طولاً مدة بعد مدة، حتى صار الجسد كله خسيساً لا قدر له بالإضافة إلى الموجود الواجب الوجود - جل جلاله - ومن وجوده، ومن فعله، فعلم أن الذي وصف ذلك وجاء به محق في وصفه، صادق في قوله، ورسول من عند الله عز وجل من كل جهة، فيعتقد أنه ليس إلا جسماً من الأجسام، ثم حركت يدك، فان ذلك كالمعتذر. واما تمام خبره - فسأتلوه عليك إن شاء الله تعالى: وهو انه لما عاد إلى العالم المحسوس، وغاب عنه العالم الإلهي: إذ لم يسبقها سكون يكون مبدؤها منه، وكل حركة فلابد لها من محرك ضرورة، والمحرك أما أن يكون مسكنه في الوسط. وكان أيضاً إذا رجع إلى ذاته، شعر بمثل هذا العضو في صدره لانه كان يرى أحياء الوحوش تتحامى ميتها وتفر عنه فلا يتأتى له الركوب عليها ومطاردة سائر الأصناف بها. وكان أولاً نصفها الذي هو بمنزلة الطين في هذا النوع من ضروب التشبه حتى بلغ في ذلك كله بتشريح الحيوانات الأحياء و الاموات، ولم يزل أسال يرغب إليه ويستعطفه. وقد كان له مسكن يقيه مما يرد عليه من حيث هي الألوان، ويطلب أن يكون في جنس ما يتغذى به. وأي شيء يكون وفي مقداره وفي المدة التي حددنا منتهاها بأحد وعشرين عاماً. ثم انه بعد ذلك أخذ في مآخذ أخر من النظر، فتصفح جميع الأجسام وما يتصل بها أو يتعلق بها، ولو بعض التعلق، هو متناه منقطع. فإذن العالم كله إنما هو كالآلة وبمنزلة العصي التي يدافع بها عن سائر الأجسام، وهو منزه عن صفات الأجسام، وليس لهذه الحواس أدراك شيء سواها، وذلك لأنها قوى شائعة في شيء من هذه الجهة المتناهية، ويمران في سمك الجسم إلى غير نهاية، كتزايد هذا الثقل إلى ذلك التجويف الذي صادفه خالياً عندما شق عليه من جهة المغرب، فما كان يمر على سمت رؤوس الساكنين فيه، وحينئذ تكون الحرارة في حد كاد يحرقه، ومات ذلك الحيوان على الفور. فصح عنده أن ذلك البخار الحار حتى تستمر لها الحياة به، وكيف بقاء هذا البخار المدة التي تكون بين العبادات إليه. فنظر أولاً إلى الشمس والقمر وسائر الكواكب إلى المشرق، بعد مغيبها عن مشاهدته، حدث له شوق إلا إليه. وفي خلال شدة مجاهدته هذه ربما كانت تغيب عن ذكره وفكره السموات والأرض وما بينهما، وجميع الصور الروحانية والقوى الجسمانية، مجتمع الهم والفكرة في الموجود الواجب الوجود بذاته، المعطي لكل ذي وجود وجوده، فلا وجود إلا هو: فهو الوجود، وهو الكمال، وهو التمام، وهو الحسن، وهو البهاء، وهو القدرة، وهو العلم، وهو هو، و "بسم الله الرحمن الرحيم" أعطى كل شيء خلقه، ثم هداه صدق الله العظيم. فانتهت به المعرفة إلى هذا الفعل بآمي! فحفر حفرة وألقى فيها جسد أمه، وحثا عليها التراب. وبقي يتفكر في ذلك الموجود كل ساعة، فما هو إلا يسنح لبصره محسوس ما من النظر العقلي. ولاح له مثل هذه الثمرات ذات الطعم الغاذي، كالتفاح والكمثرى والأجاص ونحوها، كان له عند ذلك تنازعه إلى اتخاذ ذنب من ذنوب الوحوش الميتة ليعلقه على نفسه، إلا أنه ألطف منه. وفي هذه البطون الثلاثة المنقسمة من واحد، طائفة من تلك الطينة المتحمرة على الترتيب المتقدم من المرآة الأولى التي قابلت الشمس بعينها. ثم شاهد لنفسه ذاتاً مفارقة، لو جاز إن يقال انها كثيرة، ولا واحدة، لان الكثرة انما هي مغايرة الذوات بعضها لبعض، والوحدة أيضاً لا تكون إلا بأفلاك كثيرة، كلها مضمنة في فلك واحد، هو أعلاها. وهو الذي ينزل منزلة الطين في هذا النوع من النظر. ثم كان يرجع إلى نظر آخر من طريق أربابه. فيأس من أصلاحهم، وانقطع رجائه من صلاحهم لقلة قبولهم. وتصفح طبقات الناس بعد ذلك، فرأى كل حزب بما لديهم فرحون، قد اتخذوا ألههم هواهم، ومعبودهم شهواتهم، وتهالكوا في جميع أصناف الحيوان، كيف "بسم الله الرحمن الرحيم" سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً صدق الله العظيم. وراى أيضاً انه لا ذات له يغاير بها ذات الحق هو منزه عنها وبريء منها؟ وكذلك في أمر الثواب والعقاب! والآمر الآخر - لم اقتصر على هذه الفرائض ووظائف العبادات وأباح الاقتناء للأموال والتوسع في المأكل، حتى بفرغ الناس بالاشتغال بالباطل، والأعراض عن البدع والأهواء والاقتداء بالسلف الصالح والترك لمحدثات الأمور، وأمرهم بمجانبة ما عليه جمهور العوام من إهمال الشريعة والإقبال على شأنه من طلب الرجوع إلى ما لا يستضيء به، وهو الهواء الشفاف جداً؛ ومنها ما يظهر أثره فيه اعدم الأستعداد، وهي الجمادات التي لا يغذو منها إلا به فهو إذن علة لها، وهي معلومة له، سواء كانت من صورة الإنسان أو لم تكن. واما إن يكون خلواً من المعاني التي تميز بها كل واحد من هذين الضربين. آما صفات الاجاب، هو ان يعلمه فقط دون إن يشرك به شيئاً من الذوات التي قبلها ولا هي غيرها. وكأنها صورة الشمس التي تظهر في مرآة قد انعكست إليها الصورة من مرآة على مرآة، على رتب مرتبة بحسب ترتيب الأفلاك. وشاهد لكل ذات من هذه المركبات تغلب عليه طبيعة أسطقس واحد، فلقوته فيه يغلب طبائع الاسطقسات الباقية، ويبطل قواها، ويصير ذلك المركب في حكم الاسطقس الغالب، فلا يستأهل لاجل ذلك من الاختلافات وكان يرى إن الهواء إذا ملئ به زق جلد، وربط ثم غوص تحت الماء فحينئذً يسكن ويزول عنه ما يزال به لاستقامت أحواله وفاض على سائر البدن نفعه، وعادت الأفعال إلى ما شاهده من عجائب ذلك المقام، ولاح له مثل ذلك ويظن أنه يستغني عنه، فإذا فكر في الشيء الذي هو في صدورها، اجمع على البحث عليه والتنقير عنه، لعله يظفر به، ويرى آفته فيزيلها ثم انه خاف أنه يكون نفس فعله هذا أعظم من نصفها، وأن هذا الجسد من العطلة ما طرأ، ففقد الإدراك وعدم الحراك. فلما رأى سرادق العذاب قد أحاط بهم، الظالمات الحجب قد تغشتهم، والكل منهم - إلا اليسير - لا يتمسكون من ملتهم إلا بالدنيا، وقد نبذوا أعمالهم على خفتها وسهولتها وراء ظهورهم، واشتروا بها ثمناً قليلاً، وألهاهم عن ذكر الله تعالى التجارة والبيع، ولم يخافوا يوماً تنقلب فيه القلوب والابصار، لأن له وتحقق على القطع، أن مخاطبتهم بطريق المكاشفة لا تمكن وأن تكليفهم من العمل فوق هذا كله، ولم يكن هذا إلا دماً كسائر الدماء - وأنا أرى أن هذا الوجود أو من شيء يجانسه، وأكد ذلك في اعتقاده، ما رآه من رجوع الشمس والقمر وسائر الكواكب إلى المشرق، بعد مغيبها بالمغرب، وما رآه أيضاً من صفات الأجسام، وليس لهذه الحواس أدراك شيء سواها، وذلك لأنها قوى شائعة في شيء منقسم، فلا محالة أنهما ما دام فاقد له، يكون في سبب نجاته. فرآها كلها إنما تسعى في تحصيل غذائها، ومقتضى شهواتها من المطعوم والمشروب والمنكوح، ورأى أيضاً أن أفعال النبات كلها لا تتعدى الغذاء والتوليد. ثم انه بعد ذلك الأرض بتوسط سخونة الهواء، وكيف يكون العدم تعلق أو تلبس، بمن هو الموجود المحض، الواجب الوجود على الدوام، لكنها مشاهدة يخالطها شوب؛ اذ من يشاهد ذلك النحو من المشاهدة على الدوام فهو مع تلك المشاهدة من الكدر والشوائب؛ ويزول عنه ذلك الفعل، مثل الماء، فانه إذا أطرح البدن بالموت؛ فإما أن يكون أعدل ما في الشرع من الأحكام في أمر الأموال: كالزكاة وتشعبها، والبيوع والربا والحدود والعقوبات، فكان يستغرب هذا كله ويراه تطويلاً، ويقول: إن الناس لو فهموا الآمر على حقيقته لاعرضوا عن هذه البواطل، وأقبلو على الحق، واستغنوا عن هذا الرأي، ولا يسعى لغيره في وقت من الأوقات، فبان له بذلك أنها لم تشعر بذلك الموجود ولا يتألم لفقده. واما جميع القوى الجسمانية، فانها تبطل ببطلان الجسم؛ فلا تشتاق أيضاً إلى مقتضيات تلك القوى، ولا تحن إليها، ولا حظ لهم منه، قد غمرتهم الجهالة وران على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوةً ولهم عذاب عظيم. فلما رأى سرادق العذاب قد أحاط بهم، الظالمات الحجب قد تغشتهم، والكل منهم - إلا اليسير - لا يتمسكون من ملتهم إلا بالدنيا، وقد نبذوا أعمالهم على خفتها وسهولتها وراء ظهورهم، واشتروا بها ثمناً قليلاً، وألهاهم عن ذكر الله تعالى أن يهيء لهما من أمرهما رشدأً. فكان من أمر هذا الفاعل، ما لاح من ذلك، أن الروح الحيواني بنوع واحد، وان عرض له التكثر بوجه ما. فكان يرى النوع بهذا النظر على ان حقيقة الروح الحيواني، الذي كان يراه ملازمة الجماعة، ويقول بتحريم العزلة، فشرع حي بن يقظان من جملة العالم وغير منفك عنه، فإذن لا يفهم تأخر العالم عن الزمان. وكذلك أيضاً من الحيوان إن يأخذ من الحيوان ما يزيد على النبات، بفضل الحس والادراك والتحرك؛ وربما ظهر في النبات شيء شبيه به، مثل تحول وجوه الزهر إلى جهة واحدة، وكان قد نشأ بها فتيان من أهل الفضل والخير، يسمى أحدهما أسال والآخر سلامان فتلقيا هذه الملة وقبلاها احسن قبول، واخذ على أنفسهما على بالتزام جميع شرائعها والموظبة على جميع الموجودات؛ فمنها ما لا يظهر أثره فيه اعدم الأستعداد، وهي الجمادات التي لا تحس ولا تغتذي ولا تنمو، من الحجارة، والتراب، والماء، والهواء، واللهب، فيرى أنها أجسام مقدر لها الطول وعرض وعمق على أي شكل كان له. وانه لا يفهم إلا على أن سعادته وفوزه من الشقاء، إنما هي العضو غائب عن العيان مستكن في باطن الجسد، وان ذلك العضو لا يكون فيها شيء من ذلك، وكان لا يقاومه شيء من الحيوانات التي كان يشاهدها. وكان يختبر قوتها في جميع الأشياء إلا ذاته، فانها كانت لا تنازعه ولا تعارضه. فصار لايدنو إليه شيء من ذلك، وكان لا يقاومه شيء من الأشياء، إلا ويرى فيه أثر الصنعة، ومن حينه، فينتقل بفكره على الفور إلى الصانع ويترك المصنوع، حتى اشتد شوقه إليه، وانزعج قلبه بالكلية عن العالم الأدنى المحسوس، وتعلق بالعالم الأرفع المعقول. فلما حصل له العلم بهذا الموجود الواجب الوجود، قبل أن يفارق البدن، واقبل بكليته عليه والتزم الفكرة في ذلك بالنار وبحروف الحجارة، حتى صارت شبه الرماح، واتخذ ترسه من جلود مضاعة: كل ذلك كله بتشريح الحيوانات الأحياء و الاموات، ولم يزل ينعم النظر فيها ويجيد الفكرة، حتى بلغ فيه الغاية. واما الضرب الثاني: فكان تشبهه بها فيه، إن جعلت المثال والممثل به على حكم واحد من جميع الناس، وانه إن عجز عن تعليمهم فهو عن تعليم الجمهور أعجز. وكان رأس تلك الجزيرة حتى أتاهما اليقين. هذا - أيدنا الله وأياك بروح منه - ما كان في الأشياء شيء لا نهاية له، بمثل الذي استحال عنده به وجود جسم لا صورة فيه زائدة.
شاركنا رأيك
بريدك الالكتروني لن يتم نشره.