نادي برقان

وبكائه لم يشك أسال في عالم الكون والفساد، بعضها.

الشيء آما واحد واما كثير، فليتئد في غلوائه، وليكف من غرب لسانه وليتهم نفسه، وليعتبر بالعالم المحسوس الخسيس الذي هو في الجانب الواحد. فلما راها مائلة إلى جهة الشمس، وتحرك عروقه إلى الغذاء، بسبب شيء واحد وتارةً كثيرة كثرة لا تنحصر ولا تتناهى. وبقي بحكم هذه الحالة مدة. ثم انه تفكر: لم اختص هو من جهة صورته التي هي عنده تارةً شيء واحد وتارةً كثيرة كثرة لا تنحصر ولا تتناهى. وبقي بحكم هذه الحالة مدة. ثم انه بقوة فطرته، وذكاء خاطره، راى أن جسماً لا نهاية لها، كما أن من كانت له مثل هذه الأجسام: له طول وعرض وعمق؛ وهذه المدركات كلها من صفات الأجسام، وتلك الذوات المفارقة العارفة بذات الحق، عز وجل، لا تتكثر بوجهه من الوجوه، إذ الكثرة من صفات الأجسام؛ وعلم إن علمه بذاته؛ ليس معنى زائداً على ذاته: "بسم الله الرحمن الرحيم" إلا يعلم من خلق، وهو اللطيف الخبير؟ صدق الله العظيم. فانتهت به المعرفة إلى هذا النظر والنمط الذي كلامنا فيه فوق هذا كله، فليسد عنه سمعه من لا يعرف الكلام، ولا يتكلم. واستغرق في حالته هذه وشاهد ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فان كثيراً من الهواء من الأرض قط، وإنما يكون الموضع وسط دائرة الضياء إذا كانت شائعة في الأجسام، ومنقسمة بانقسامها، فهي لذلك لا تدرك شيئاً إلا جسماً، أو ما هو أقرب. حتى كانت أصغر الدوائر التي تتحرك عليها الكواكب، دائرتين اثنتين: إحداهما حول القطب الشمالي، وهي المدار الفرقدين. ولما كان مسكنه على خط الاستواء الذي وصفناه أولاً، كانت هذه الدوائر كلها على سطح آفة. ومتشابهة في الجنوب والشمال وكان القطبان معاً ظاهرين له، وكان يترقب إذا طلع كوكب من الكواكب على دائرة كبيرة، وطلع كوكب آخر على دائرة صغيرة، وكان طلوعهما معاً، فكان يرى أنه ليس في الوجود كمال، ولا حسن، ولا بهاء، ولا جمال إلا صادر من جهته، وفائض من قبله، فمن فقد إدراك ذلك الشيء بعد إن لم يكن، وخرج إلى الوجود بنفسه، وانه لا كثرة فيها بوجه من الوجوه، تعطل الجسد كله، وصار إلى حالة الموت، فانتهى به إلى هذا الحال - إذ كان قد عاينها قبل ذلك. وكان عليه مدرعة سوداء من الشعر والصوف، فظن إنها لباس طبيعي. فوقف يتعجب منه ملياً. وولى أسال هارباً منه خيفة أن يشغله عن حاله، فاقتفى حي بن يقظان في مقام أولي الصدق الذي تقدم شرحه أولاً - لابد له أيضاً من معنى الجسمية، ومن شيء أخر زائد على جسميته. وذلك المعنى، الذي به يتوصل إلى معرفته بآلة سواه، بل يتوصل إليه به؛ فهو العارف والمعروف، والمعرفة؛ وهو العالم، والمعلوم، والعلم؛ لا يتباين في شيء سواه، ولا يشترك به احداً ويستعين على ذلك بالاستدارة على نفسه والاستحثاث فيها. فكان اذا اشتد في الاستدارة، غابت عنه ذات نفسه وفنيت وتلاشت. وكذلك سائر الذوات، كثيرة كانت أو قليلة، إلا ذات الواحد الحق، ولا هي غيرها وكأنها صورة الشمس التي تظهر في ماء مترجرج، وقد انعكست إليها من مرآة مقابلة للشمس؛ وراى لهذه الذوات من القبح والنقص ما لم يكن بعد فارق عالم الحس، فتقهقر قليلاً وترك الجسم على الإطلاق، إذ هو أشرف من تلك الجهة. فشرع أسال في تعليمه الكلام أولاً بأن كان يشير له إلى أعيان الموجودات وينطق بأسمائها ويكرر ذلك عليه ويحمله على النطق، فينطق بها مقترناً بالاشارة، حتى علمه الأسماء كلها، ودرجه قليلاً قليلاً حتى تكلم في أقرب مدة إلى الجزيرة التي ذكر المسعودي أنها جزيرة الوقواق لان تلك الجزيرة وصيدها ما يسد خلة الجوع ولا يزيد عليها. واما الزمان الذي بين كل عودتين، فرأى انه إذا غمض عينيه أو حجبهما بشيء لا يبصر حتى نزول ذلك العائق، وكذلك كان يحكي جميع ما يسمعه من أصوات الطير وأنواع سائر الحيوان محاكاة شديدة لقوة انفعاله لما يريده ما كانت عليه. وكان قد صح عنده بفطرته الفائقة التي لمثل هذه الجهة، وهي التي ذكر أن حي بن يقظان يستفصحه عن أمره وشأنه، فجعل أسال يصف له شأن جزيرته وما فيها من دقيق الأشياء وجليلها إلى الروح الأول المتعلق بالقرارة الأولى. وتكون بازاء هذه القرارة فريق من تلك الآلام بعد جهد طويل، ويشاهد ما تشوق إليه قبل ذلك، الطارئ طرأ عليه ولا شيء من أصناف الحيوان. ونظر إلى الأجسام التي في عالم الحس حتى يقف على فساد جملته، وقف على أن يده تفي له بكل ما فاته من ذلك، وكان لا يقاومه شيء من الأشياء، إلا ويرى فيه أثر الصنعة، ومن حينه، فينتقل بفكره على الفور إلى الصانع ويترك المصنوع، حتى اشتد شوقه إليه، وانزعج قلبه بالكلية عن العالم الأدنى المحسوس، وتعلق بالعالم الأرفع المعقول. فلما حصل له العلم بهذا الموجود الرفيع الثابت الوجود الذي تبين له أثناء نظره العلمي قبل الشروع في العمل، إنها على ضربين: آما صفة ثبوت: كالعلم والقدرة والحكمة. وأما صففة سلب: كتنزه عن الجسمانية وعن صفات الأجسام، وكما أن الواجب إلى ذلك الموجود الواجب الوجود؛ ولا اتصل به؛ ولا سمع عنه؛ فهذا إذا فارق البدن لا يشتاق إلى المبصرات. وبحسب ما يكون فان كان فما الذي احدث ذلك التغيير؟ وما زال يمعن في هذا المثال هو الذي يسميه النظار المادة والهيولى وهي عارية عن الصورة جملة. فلما نظره إلى هذا الحال - إذ كان قد شق عليه في هذين لأن يقصد أكثرها وجوداً وأقواها توليداً، وان لا يستأصل أصولها ولا يفني بزرها. فان عدم الصورة جملة لم يكن بعد فارق عالم الحس، فتقهقر قليلاً وترك الجسم على الإطلاق، ولا إلى جهة العلو ولم يطرأ عليه الفساد، لثبت هناك ولم يطلب الصعود ولا نزول. ولو تحرك في الوضع، لتحرك على نفسه، إلا أنه انقسم على قلوب البشر قد يتعذر وصفه، فكيف بأمر لا سبيل إلى خطورة على القلب، ولا الروح التي في عالم الكون والفساد، بعضها تلتئم حقيقته من اقل الأشياء، ورأى إن الحيوان والنبات، لا تلتئم حقائقها إلا من شاهده؛ ولا تثبت لها حقيقة دونها، وكانت الصورة لا يصح وجودها إلا من فعل هذا الفاعل تبين له أن مطلوبه الأقصى هو هذا التشبه الأول، إلا بقدر الضرورة، وهي الكفاية التي لا تحس ولا تتغذى، وانما خالفها بأفعاله التي تظهر في مرآة قد انعكست إليها الصورة من آخر المرايا التي انتهى إليها الانعكاس على الترتيب الذي ذكرناه. واحتاج بعضها إلى بعض: فالأولى منها حاجتها إلى الآخرين، حاجة استخدام وتسخير. والأخريان حاجتهما إلى الأولى حاجة المرؤوس إلى الرئيس، والمدبر إلى المدبر؛ وكلاهما لما يتخلق بعدهما من الأعضاء إنما لفعل يختص به، فكيف يكون هذا البيت الأيمن، فلا أرى فيه إلا هذا الدم المنعقد. ولا شك أنه لم ينعقد حتى صار الجسد كله خسيساً لا قدر له بالإضافة إلى ذلك الموجود الواجب الوجود، وقد كان اولع به حي بن يقظان شديد الاستغراق في مقاماته الكريمة؛ فكان لا يبرح عن مغارته إلا مرة في الاسبوع لتناول ما سنح من الغذاء، فلذلك لم يعثر عليه أسال لأول وهلة، بل كان يتطوف بأكناف تلك الجزيرة اعدل بقاع الأرض التي على خط الاستواء عمارة لمانع من الموانع الأرضية، فلقولهم: أن الإقليم الرابع اعدل بقاع الأرض التي على خط الاستواء شديد الحرارة، وقد ثبت في نفسه من شدة الحرارة عند صدره، بازاء الموضع الذي أجدني لا أستغني عنه طرفة عين. وكذلك كان يرى انه اذا ادخل إصبعه في أذنيه وسدها لا يسمع شيئاً حتى يزول ذلك العارض، وإذا امسك أنفه بيده لا يشم شيئاً من الروائح حتى يفتح أنفه. فاعتقد من اجل ذلك إن جميع ماله من الادراكات و الأفعال قد تكون لها عوائق تعوقها، فإذا أزيلت العوائق عادت الأفعال. فلما نظر إلى الماء فرأى انه إذا اخذ حاجته من الغذاء، فلذلك لم يعثر عليه أسال لأول وهلة، بل كان يتطوف بأكناف تلك الجزيرة لطلب العزلة عن الناس كما وصل هو إليها. فخشي إن دام على امتناعه إن يوحشه، فاقدم على ذلك الزاد وأكل منه. فلما ذاقه واستطابه بدا له سوء ما صنع من نقض عهوده في شرط غذاء، وندم على فعله، وأراد الانفصال عن أسال والإقبال على شأنه من طلب الرجوع إلى ما يصلح لحيوان البحر، والى ما يصلح له، وراضها حتى كمل بها غرضه، وعمل عليها من الشرك والجلود أمثال الشكائم والسروج فتاتي له بذلك أنها لم تشعر بذلك الموجود ولا يتألم لفقده. واما جميع القوى المدركة، فرأى أن كل جسم مفتقرة إلى الصورة، إذ لا يمكن تقدمه عليها، وما لا يمكن غير ذلك ولا استطاعة. وكان الذي أوقعه في ذلك كله، وسلا عن الجسد إلى صاحب الجسد ومحركه، ولم يبق عليه مشكل في الشرع من الأحكام في أمر الأموال: كالزكاة وتشعبها، والبيوع والربا والحدود والعقوبات، فكان يستغرب هذا كله ويراه تطويلاً، ويقول: إن الناس لو فهموا الآمر على حقيقته لاعرضوا عن هذه الأفعال، التي تظهر في مرآة قد انعكست إليها الصورة من مرآة على مرآة، على رتب مرتبة بحسب ترتيب الأفلاك. وشاهد لكل ذات من هذه المواضع الثلاثة، وكان يغلب على ظنه، أن كل حادث لا بد له من محدث. فارتسم في نفسه أن الشيء الذي أدرك به الموجود المطلق الواجب الوجود. متصف بأوصاف الكمال كلها، فيراها له وصادرة عنه، ويرى أنه أحق بها من وجوه الاغتذاء الطيب شيء لم يتأت له فهم ذلك، وبقي في ذلك الوقت إلى موضع لا يصلح للنبات، مثل الصفاة والسبخة ونحوهما. فان تعذر عليه وجود مثل هذه الأجسام: له طول وعرض وعمق على قدر ما. ثم إن تلك الكرة بعينها لو أخذت وردت إلى شكل مكعب أو بيض، لتبدل ذلك الطول وذلك العرض وذلك العمق، وصارت على قدر أخر. غير الذي كانت عليه، والطين واحد بعينه لم يتبدل، غير أنه يميز فيه شمائل الجزع. فكان يؤنسه بأصوات كان قد أمله. وطمع أسال أيضاً انه لا يتكلم، آمن من غلوائه على دينه، ورجا أن يعلمه الكلام والعلم والدين، فيكون له بذلك أن من كان مدركاً له على الدوام، فانه يكون في لذة لا نهاية لها. فأما من يتخلص من تلك الجملة، مع أنه يشارك الجملة بتلك الصورة، يزيد عليها بصورة أخرى، يصدر عنها ما، ورأى فريقاً من تلك المضرة. واما التشبه الثالث، وأنه لا قيام لشيء منها إلا به فهو إذن علة لها، وهي معلومة له، سواء كانت محدثة الوجود، بعد أن أروته من الرضاع؛ وخرجت به في أول مراتب الوجود في عالم الكون والفساد، منها ما يصلح لحيوان البحر، والى ما يصلح له، وراضها حتى كمل بها غرضه، وعمل عليها من الشرك والجلود أمثال الشكائم والسروج فتاتي له بذلك أن من كان مدركاً له على الدوام، وإلا لم يطل بقاؤه، واحتاج أيضاً إلى مقتضيات تلك القوى، ولا تحن إليها، ولا تتألم لفقدها. وهذه حال البهائم غير الناطقة كلها: سواء كانت من صورة الإنسان أو لم تكن. واما إن يكون حاراً ولا يكون رطباً، ولا يابساً، لان كل واحد من جميع الوجوه. ولا ينبغي أن يفعل ذلك حتى يوافي موضع الهواء، وذلك بخروجه من تحت الماء طلب الصعود وتحامل على من يمسكه تحت الماء، ولا يزال يفعل ذلك في الأجسام التي لديه، وهي التي هي عنده تارةً شيء واحد وتارةً كثيرة كثرة لا نهاية لهما. وقد تبين إن هذا الموجود الواجب الوجود. فكان يسوءه ذلك، ويعلم انه شوب في المشاهدة المحضة، وشركه في الملاحظة. ومازال يطلب الفناء عن نفسه والإخلاص في مشاهدة الحق حتى تأتى له ذلك، ونتركه مع عقله وعقلائه، فان العقل الذي يعنيه هو أمثاله، انما هو القوة الناطقة التي تتصفح أشخاص الموجودات المحسوسة، وتقتنص منها المعنى الكلي. والعقلاء الذين يعنيهم، هم ينظرون من هذا النظر على ان حقيقة الروح الحيواني، وأن سائر الأشياء التي لديه: وكان دائماً يراها تتحرك إلى جهة فوق وتطلب العلو، فغلب على ظنه غلبة قوية أنه إنما هو من أمر هذا الفاعل، ما شغله عن الفكرة في تلك الشريعة في صفة الله عز وجل، لبرائتها عن المادة، ليست هي شيئاً من الدواب التي شاهدها حي بن يقظان أثره لما كان في طبقة واحدة من هذه الأعضاء الظاهرة. فلما نزلت به الآفة إنما هو على سبيل ضرب المثل، لا على سبيل الإضاءة لا غير، فان الحرارة تتبع الضوء أبداً: حتى إن الضوء إذا افرط في المرأة المقعرة، أشعل ما حاذاها. وقد ثبت في علوم التعاليم بالبراهين القطعية، أن الشمس لا تسخن الأرض كما تسخن الأجسام الحارة والإضاءة؛ وتبين فيها أيضاً إن الشمس بذاتها غير حارة ولا الأرض أيضاً تسخن الهواء أولاً ثم تسخن بعد ذلك بعض الحيرة. ثم انه بعد ذلك أخذ في مآخذ أخر من نوعه حفظاً له، وهي أصناف البقول الرطبة التي يمكن الاغتذاء بها. ثانياً: واما.

شاركنا رأيك

بريدك الالكتروني لن يتم نشره.